كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الحجر 10 12 غير الله لتطرّق عليه الزيادةُ والنقصُ والاختلاف وفي سبك الجملتين من الدلالةِ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل مالا يخفى وفي إيراد الثانيةِ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على دوام الحفظِ والله سبحانه أعلم وقبل الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس وتأخيرُ هذا الكلام وإن كان جواباً عن أول كلامِهم الباطلِ ردا له لما ذكر آنفاً ولارتباطه بما يعقُبه منْ قولِه تعالى
(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا) أي رسلاً وإنما لم يُذكر لدلالةِ ما بعدَهُ عليه (مِن قَبْلِكَ) متعلقٌ بأرسلنا أو بمحذوف هو نعتٌ للمفعول المحذوفِ أي رسلاً كائنةً من قبلك (فِى شِيَعِ الأولين) أي فِرَقِهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفِرقةُ المتّفقة على طريقة ومذهب من شاعه إذا تبِعه وإضافتُه إلى الأولين من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه عند الفرّاء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيعِ الأممِ الأولين ومعنى إرسالِهم فيهم جعلُ كل منهم رسولاً فيما بين طائفةٍ منهم ليتابعوه في كلِّ ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ
(وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ) المرادُ نفيُ إتيانِ كل رسول لشعته الخاصة به لا نفيُ إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيعِ جميعاً أو على سبيل البدل وصيغة الإستقبال لاستحضاره الصورةِ على طريقة حكايةِ الحال الماضية فإن مالا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أي ما أتى شيعةً من تلك الشيعِ رسولٌ خاصٌّ بها (إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) كما يفعله هؤلاء الكفرةُ والجملة في محل النصب على أنها حالٌ مقدرةٌ من ضميرِ المفعولِ في يأتيهم إذا كان المرادُ بالإتيان حدوثَه أو في محلِ الرفعِ على أنها صفة رسول فإن محلَّه الرفعُ على الفاعلية أي إلا رسولٌ كانوا به يستهزءون وأما الجرُّ على أنها صفةٌ باعتبار لفظِه فيُفضي إلى زيادة من الاستغراقيةِ في الإثبات ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً على الوصفية بأن يقدَّر الموصوفُ منصوباً على الاستثناء وإن كان المختارُ الرفعَ على البدلية وهذا كما ترى تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادةُ الجهال مع الأنبياء عليهم السلام وحيث كان الرسولُ مصحوباً بكتاب مّنْ عِندِ الله تعالى تضمّن ذكرُ استهزائِهم بالرسول استهزاءَهم بالكتاب ولذلك قيل
(كذلك) إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلام السابقُ من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء أي مثلَ ذلك السَّلْكِ الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب (نسكله) أي الذكرَ (فِى قُلُوبِ المجرمين) أي أهل مكةَ أو جنسُ المجرمين فيدخلون فيه دخولاً أولياً ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ منه أي نسلكه سَلْكاً مثل ذلك السلك أو نسلك السَّلكَ حال كونِه مثلَه أي مقروناً بالاستهزاء غيرَ مقبول لما تقضيه الحكمةُ فإنهم من أهل الخِذلان ليس لهم استحقاقٌ لقبول الحقِّ وصيغةُ المضارع لكون المشبه به مقدرا في الوجود وهو السِّلك الواقعُ في الأمم السالفة أو للدِلالة على استحضار الصورةِ والسَّلْكُ إدخالُ الشيء في آخرَ يقال سَلكتُ الخيط في الإبرة

الصفحة 69