كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الحجر 30 3 (فقعوا له) من وقع يقع وفيه دليلٌ على أنَّ ليس المأمور به مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له (سَاجِدِينَ) تحية له وتعظيماً أو اسجدوا لله تعالى على أنَّه عليه الصلاةُ والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثارِ قُدرته تعالى وحكمتِه كقول حسان رضي الله تعالى عنه ... أليس أولَ من صلَّى قبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن ...
(فَسَجَدَ الملائكة) أي فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد الملائكةُ (كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (أَجْمَعُونَ) بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد الى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل من افادة معنى الاحاطة من غير نظر الى الكمال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر لم يكنْ بدٌّ من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الالغاء وقيل أُكِّد بتأكيدينِ مبالغةً في التَّعميمِ هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التَّعليقيِّ كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سورة ص أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عزَّ وجلَّ عن عهدة تحقيقُه في تفسير سورة البقرة
(إِلاَّ إِبْلِيسَ) استثناءٌ متَّصل إما لأنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً واما لأنَّ من الملائكةِ جنساً يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى (أبى أَن يَكُونَ من الساجدين) استئناف مبين لكيفية عدم السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الاباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن ابليس أبى ان يكون معهم وفيه دلالةٌ على كمالِ ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ أولئك المقربين الكرام
(قال) استئناف مبني على سؤال من قال فماذَا قالَ الله تعالَى عنذ ذلك فقيل قال (يا إبليس مالك) أي أي سبب لا أي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك (ألا تكون) في أو لا تكون (مَعَ الساجدين) لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورةِ الأعرافِ قَالَ ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك وفي سورة ص قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهف وسورة طه

الصفحة 75