كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الحجر 56 59 تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قولُ الملائكة فلا تكن من القانطين دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه
(قَالَ وَمَن يَقْنَطُ) استفهامٌ إنكاريٌّ أي لا يَقْنَطُ (مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون) المخطِئون طريقَ المعرفة والصوابِ فلا يعرِفون سعةَ رحمتِه وكمالَ علمه وقدرتِه كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لا ييأس مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون ومرادُه نفيُ القنوط عن نفسه على أبلغ وجهٍ أي ليس بي قنوطٌ من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاةِ حالي لفيضان تلك النعمةِ الجليلة عليّ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرىء بضم النون وبكسرها من قنَط بالفتح ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ من الملائكة مع إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصة بل مع سارَةَ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورة هود ولم يُذكر ذلك هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هذه هناك اكتفاءً بما ذكر ههنا
(قَالَ) أيْ إبراهيمُ عليهِ الصلاة والسلام وتوسيطُه بين قوله السابقِ وبين قوله (فَمَا خَطْبُكُمْ) أي أمرُكم وشأنكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ (أَيُّهَا المرسلون) صريحٌ في أن بينهما مقالةً مطويةً لهم أشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى قال أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ الآية فإن قوله الأخيرَ ليس موصولاً بقوله الأول بل هو مبنيٌّ على قوله تعالى فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فإن توسيطَ قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابُه لهم عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ الرسالةِ بعد ما كان خطابُه السابقُ مجرداً عن ذلك مع تصديره بالفاء دليلٌ على أن مقالتهم المطويةَ كانت متضمنةً لبيان أن مجيئَهم ليس لمجرد البشارةِ بل لهم شأنٌ آخَرُ لأجله أُرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام إن لم يكن شأنُكم مجردَ البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة والسلام بأن كلَّ المقصود ليس البشارةَ بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبِشارةُ لا تحتاج إلى عدد وذلك اكتُفي بالواحد في زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحالِ لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها فتأمل
(قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قوم مجرمين) هم قوم لوط لكن وُصفوا بالإجرام وجيء بهم بطريق التنكيرِ ذمًّا لهم واستهانة بهم
(إلا آل لُوطٍ) استثناءٌ متصلٌ من الضمير في مجرمين أي إلى قوم أَجرموا جميعاً إلا آلَ لوط فالقومُ والإرسالُ شاملان للمجرمين وغيرِهم والمعنى إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ أجرَم كلُّهم إلا آلَ لوط لنُهلِك الأولين وننجِّيَ الآخرين ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) أي لوطاً وآلَه (أَجْمَعِينَ) أي مما يصيب القومَ فإنه

الصفحة 82