كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الحجر 64 66 قومِه وتنجيةِ آله عَقيبَ ذكر بشارة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهما وحيث كان مستدعياً لبيان كيفية النجاةِ وترتيبِ مباديها أُشير إلى ذلك إجمالاً ثم ذُكر ما فَعل القوم وما فُعل بهم ولم يُبالَ بتغيير الترتيب الوقوعيّ ثقةً بمراعاته في مواقعَ أُخَرَ ونسبةُ المجيء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازلٌ بالقوم بطريق تفويض أمرِه إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه وفوّضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعّدهم به
(واتيناك بالحق) أي باليقين الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابُهم عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراءِ عنه أو المرادُ بالحق الإخبارُ بمجيء العذابِ المذكور وقوله تعالى (وِإِنَّا لصادقون) تأكيدٌ له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحقِّ أي المطابق للواقعِ وإنا لصادقون في ذلك الخبرِ أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيدٌ إثرَ تأكيدٍ وقوله تعالى
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) شروعٌ في ترتيب مبادىء النجاةِ أي اذهبْ بهم في الليل وقرىء بالوصل وكلاهما من السرى وهو السيرُ في الليل وقرىء فسِرْ من السير (بِقِطْعٍ من الليل) بطائفة منه أو من آخره قال ... افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم ...
وقيل هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح (واتبع أدبارهم) وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ولعل إيثارَ الاتباعِ على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ) أي منك ومنهم (أَحَدٌ) فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب وقيل نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضع أخر (وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بينه وبين ما سلف من الغابرين
(وَقَضَيْنَا) أي أوحينا (إِلَيْهِ) مقْضيًّا ولذلك عُدِّيَ بإلى (ذَلِكَ الامر) مبهمٌ يفسره (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ) على أنه بدلٌ منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحةِ التي هي مدارُ ثبوت الحكم أي دابرَ هؤلاء المجرمين وإيرادُ صيغة المفعول بدلَ صيغة المضارع لكونها أدخلَ في الدلالة على الوقوعِ وفي لفظ القضاءِ والتعبيرِ عن العذاب بالأمر والإشارة

الصفحة 84