كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 5)

الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا فالآية على حد قوله جل شأنه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في بابه،
يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصيّ زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي علمت من أمرها ما علمت وأَنْ تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيحاء، والفاء في قوله سبحانه:
فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي إلخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والافك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة، وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور «تلّقف» بالتشديد وحذف إحدى التاءين فَوَقَعَ أي ظهر وتبين كما قال الحسن ومجاهد والفراء الْحَقُّ وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل، وفائدة الاستعارة كما قيل: الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام، وقيل: المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في الحقيقة وليس بشيء وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله سبحانه:
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضا، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من أُلْقِيَ السَّحَرَةُ إلخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم

الصفحة 26