كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 5)

رَبِّي
[الكهف: 109] لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة إِنَّ هذا الصنيع لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل: وكذا قوله: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فو الله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم
وهو الذي نشأ عنه هذا القول لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر، والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن مِنْ تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك، وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولهذا سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله قالُوا استئناف بياني إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا أنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ويحتمل أيضا أن المعنى أنا جميعا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا:
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثاني لهم ولفرعون، وعلى الثاني يحتمل الأمرين وَما تَنْقِمُ أي ما تكره، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم مِنَّا معشر من آمن:
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقيل: إن تَنْقِمُ مضارع نقم بمعنى عاقب، يقال: نقم منه نقما وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روي عن عطاء، وعليه فيكون أَنْ آمَنَّا في موضع المفعول له، والمراد على التقديرين حسم طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب. ثم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا والتجئوا إليه سبحانه وقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، «فأفرغ» على الأول استعارة تبعية تصريحية وصَبْراً قرينتها،

الصفحة 28