كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 5)

واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأن سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي في ذلك، فحتى سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم.
ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقا لاستلزامه أن يكون إذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيّا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه.
وتوجيه الإنكار إلى الإذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز حَتَّى والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد العلم له صلّى الله عليه وسلّم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين أن المقصود هاهنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم وإسناد التبين إليهم وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الاستناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه. وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام، وكثيرا ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال: عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمري؟، ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي؟ والغرض التعظيم، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة ... تجود بفضلك يا ابن العلا

ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشدا هدى

أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى
ومما ينظم في هذا السلك ما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني» .
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة. وقال السجاوندي:
إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو. ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية

الصفحة 298