كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 5)

بهما في الموضعين للايذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ وشكهم المستمر في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون، وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان.
والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلا. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عنه أن قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ إلخ نسخته الآية التي في [النور: 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فجعل الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء.
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده.
وقرىء «عدّة» بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جني: سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في اقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل: ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا
وقرىء «عده» بكسر العين بإضافة وغيرها وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم وعوقهم عن ذلك: والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل: ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الإحسان بإثبات الإساءة في قولك: ما أحسن إليّ لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن لكِنْ تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول ووقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر: واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الاقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له.
وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم وإلقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة: 243] أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو اذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم في القعود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ما زادُوكُمْ شيئا من الأشياء إِلَّا خَبالًا أي شرا وفسادا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا. وعن الضحاك غدرا ومكرا، وأصل

الصفحة 302