كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 5)

فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كليّ كره الله تعالى انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنّ لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ تشتيت شملك وتفرق أصحابك مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي ابن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيضا بعد أن خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير وابن جريج أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي المكايد وتقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرىء «وقلبوا» بالتخفيف حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النظر والظفر الذي وعده الله تعالى وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه وَهُمْ كارِهُونَ أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والإتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلا للخطب وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَلا تَفْتِنِّي أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم.
أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إن امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما،
أو لا توقعني في المعصية والإثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن وقتادة.
واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا اشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أو لم يأذن. وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرىء «ولا تفتني» من أفتنه بمعنى فتنه أَلا فِي الْفِتْنَةِ أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنيّ عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به سَقَطُوا لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبيّ «سقط» بالإفراد مراعاة للفظ مَنْ ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في

الصفحة 304