كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 5)

حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.
[قَوْلٌ ثَالِثٌ] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا علي بن الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ هُنَّ جَمِيعُهُنَّ أَرْبَعَةُ أَيْامٍ، فَالْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يَوْمِ النَّحْرِ، هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وَالَّذِي قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يَعْنِي ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا.
[قَوْلٌ رَابِعٌ] إِنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ آخَرُ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيْامُ التَّشْرِيقِ.
وَقَوْلُهُ: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كَمَا فصلها تعالى في سورة الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الأنعام: 143] الآية، وَقَوْلُهُ: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَتُطْبَخُ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وحسا من مرقها «1» . قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ:
قَالَ لِي مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَكُلُوا مِنْها قَالَ ابْنُ وَهْبٍ:
وَسَأَلْتُ اللَّيْثَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَكُلُوا مِنْها قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لَمْ يَأْكُلْ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: هِيَ كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَةِ: 2] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «2» [الْجُمُعَةِ: 10] وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بِالنِّصْفِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ فَجَزَّأَهَا نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ لِلْمُضَحِّي وَنِصْفٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهَا تُجَزَّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: ثُلُثٌ لَهُ وَثُلُثٌ يُهْدِيهِ وَثُلُثٌ يَتَصَدَّقُ به، لقوله تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الْحَجِّ: 36] وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَهَا إِنْ شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج حديث 147، وأبو داود في المناسك باب 56، والترمذي في الحج باب 6، وابن ماجة في المناسك باب 84، والأضاحي باب 15، والدارمي في المناسك باب 34.
(2) انظر تفسير الطبري 9/ 138.

الصفحة 366