كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 5)

بِالْفَاءِ، وَهَكَذَا هَاهُنَا قَالَ فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي خضراء بعد يباسها وَمُحُولِهَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنَّهَا تُصْبِحُ عَقِبَ الْمَطَرِ خَضْرَاءَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ بِمَا فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ وَأَقْطَارِهَا وَأَجْزَائِهَا مِنَ الحب وإن صغر، ولا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَيُوَصِّلُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُ قِسْطَهُ مِنَ الْمَاءِ فَيُنْبِتُهُ بِهِ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَانَ: 16] وَقَالَ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النَّمْلِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَالَ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يُونُسَ: 61] وَلِهَذَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَوْ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي قَصِيدَتِهِ: [الطويل]
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى؟ ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حبه في رؤوسه ... فَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَقَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ مُلْكُهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ عَبْدٌ لَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ أَيْ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ، كَمَا قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الْجَاثِيَةِ: 13] أَيْ مِنْ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ، أَيْ فِي الْبَحْرِ الْعَجَاجِ وَتَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ تَجْرِي الْفُلْكُ بِأَهْلِهَا بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ فَيَحْمِلُونَ فِيهَا مَا شَاءُوا مِنْ تَجَائِرَ وَبَضَائِعَ وَمَنَافِعَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَيَأْتُونَ بِمَا عِنْدَ أُولَئِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا ذَهَبُوا بِمَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَهُ وَيُرِيدُونَهُ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَهَلَكَ مَنْ فِيهَا، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَيْ مَعَ ظُلْمِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرَّعْدِ: 6] .
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ كَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الْبَقَرَةِ: 28] .
وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْجَاثِيَةِ: 26] .
وَقَوْلِهِ: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: 11] ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أَنْدَادًا وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أَيْ خَلَقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا يُذْكَرُ، فَأَوْجَدَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود.

الصفحة 394