كتاب لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ

وكان -رحمة الله تعالى عليه- له فوائد جمة ويستحضر غرائب وهو من أعذب الناس لفظا وأحسنهم خلقا وأجملهم صورة وأفكههم محاضرة كثير المروءة والإحسان والتواضع والكلام الحسن لكل إنسان كثير المحبة للفقراء والتبرك بهم مع التعظيم الزائد لهم، عقد مجلسا للإملاء فأملى المسلسل بالأولية ثم عدل إلى أحاديث خراش وأضرابه من الكذابين فرحا بعلو الإسناد وهذا مما يعيبه أهل الإسناد، يرون أن الهبوط أولى من العلو إذا كان من رواية الكذابين لأنه كالعدم، وقد وصفه الأئمة بالحفظ، من ذلك أن الحافظ صلاح الدين العلائي كتب له على كتابه "جامع التحصيل في رواية المراسيل" من تأليفه: قرأ عليّ هذا الكتاب الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث الحافظ المتقن سراج الدين شرف الفقهاء والمحدثين فخر الفضلاء، وكتب شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي طبقة في آخر فوائد تمام فيها: وسمع الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين، ووقف صاحبنا الحافظ أبو الفضل بن حجر على ترجمة صاحبنا الحافظ أبي الطيب الفاسي له وفيها: وليس في علم الحديث كالماهر فانتقد ذلك وكتب ما يدل على مهارته فيه، وذكره قاضي صفد العثماني في "طبقات الفقهاء" فقال: أحد مشايخ الإسلام صاحب المصنفات التي ما فتح على غيره بمثلها في هذه الأوقات، وقال شيخنا الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي: حفاظ مصر أربعة أشخاص وهم من مشايخي البلقيني وهو أحفظهم لأحاديث الأحكام والعراقي وهو أعلمهم بالصنعة والهيثمي وهو أحفظهم للأحاديث من حيث هي وابن الملقن وهو أكثرهم فوائد في الكتابة على الحديث. انتهى. ومن العجيب أن كلًّا منهم ولد قبل الآخر بسنة سوى الهيثمي فإن مولده بعدهم بمدة ومات كلٌّ منهم قبل الآخر بسنة فأولهم ابن الملقن1 ثم البلقيني ثم العراقي ثم الهيثمي.
قال شيخنا الحافظ برهان الدين: وحُكي لي أن الشيخ بهاء الدين بن عقيل حكى له عن قيم مسجد النارنج2 بالقرافة أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يخرج إلى المسجد المذكور يوم الأربعاء ومعه "نهاية إمام الحرمين" فيمكث بالمسجد يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة إلى قبيل الصلاة فينظر في هذا الوقت النهاية قال: الشيخ بهاء الدين وأنا أستبعد ذلك فقال الشيخ سراج الدين البلقيني: ولا أستبعد لأن الشيخ عز الدين لا يشكل عليه منها شيء ولا يحتاج إلى أن يتأمل منها إلا شيئا قليلا أو ما هذا معناه وأنا أنظر مجلدا في يوم واحد، قال شيخنا برهان الدين: فذكرت هذه الحكاية لشيخنا سراج الدين بن الملقن فقال لي عقيب ذلك: أنا نظرت مجلدين من الأحكام للمحب الطبري في يوم
__________
1 ولد ابن الملقن سنة 723 وتوفي سنة 804 والبلقيني ولد سنة 724 وتوفي سنة 805 والعراقي ولد سنة 725 وتوفي سنة 806 والهيثمي توفي سنة 807. "الطهطاوي".
2 يصفه المقريزي في خططه ويقول سمي مسجد النارنج لأن نارنجه لا ينقطع أبدا.

الصفحة 131