كتاب لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ

وكان لا يأنف من تأخير الفتوى عنده إذا أشكل عليه منها شيء إلى أن يحقق أمرها من مراجعة الكتب لئلا يلام في الفتوى1 بأن قيل يغير رأيه عما يفتي به وما ذاك إلا لسعة علمه، رحل إليه الطلبة من الآفاق الشاسعة للقراءة عليه فانتفعوا به وتخرج به خلائق لا يحصون.
وخضع له الأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين وتلمذوا له لما بدا لهم من كثرة محفوظه لا سيما لنصوص الشافعي -رضي الله عنه- والمعرفة التامة بهذه العلوم مع الذهن السليم والذكاء الذي على كبر السن لا يريم ولولا أن نوع الإنسان مجبول على النسيان لكان معدوما فيه فلم يكن في الحفظ وقلة النسيان من يماثله بل ولا من يدانيه بحيث إنه لم يمت حتى كان قصارى الماهر في العلم أن ينسب نفسه إليه ويتبجح بالقراءة عليه وكان عظيم القراء وعين أهل الإسلام وعالمهم وإمامهم ومعلمهم ويعولون عليه في كل المهمات الدينية ولا يستغنون عنه في الأمور الدنيوية يفزع إليه في حل المشكلات فيحلها ويقصد لكشف المعضلات فيكشفها ولا يمهلها، كان الشيخ بهاء الدين بن عقيل يقول: أحق الناس2 والفتيا في زمانه وقد كتب له الأستاذ أبو حيان وله من العمر دون العشرين: قرأ عليّ الشيخ الفقيه العالم المفن سراج الدين عمر البلقيني جميع الكافية في النحو قراءة بحث وتفهم وتنبيه على ما أغفله الناظم فكان يبادر إلى حل ما قرأه عليّ من مشكل وغيره فصار بذلك إماما ينتفع به في هذا الفن العربي مع ما منحه الله تعالى من علمه بالشريعة المحمدية بحيث نال في الفقه وأصوله الرتبة العليا وتأهل للتدريس والقضاء والفتيا على مذهب ابن إدريس -رضي الله عنه.
وقال شيخنا الحافظ برهان الدين سبط بن العجمي: كان فيه من قوة الحافظ وشدة الذكاء ما لم يشاهد في مثله، أخبرني في رحلتي الأولى إلى القاهرة بمدرسته أنه لما قدم شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي نزل في قصر بشتك فدعاه شخص إلى الجيزة وحضرت معه في جماعة من علماء القاهرة منهم بدر الدين الزركشي وابن العنبري والطُنبذي3 فلما صلينا العشاء قال لي شرف الدين ابن قاضي الجبل: يا سراج الدين أينا أحفظ أنا أم أنت؟ فقلت له: سبحان الله! أنتم كذا وكذا -أتواضع له- فقال: استحضر أنا
__________
1 وعبارة الحافظ ابن حجر في معجمه وكان ينقم عليه في الفتوى تغير رأيه عما يفتي به وما كان ذلك إلا لسعة دائرته في العلم. "الطهطاوي".
2 وأصله "يقول هو أحق الناس" كما في عبارة البهاء بن عقيل التي نقلها عنه الحافظ ابن حجر وغيره. "الطهطاوي".
3 بضم الطاء والموحدة بينهما نون ساكنة آخره معجمة نسبة إلى طنبذا قرية بمصر. شذرات الذهب.

الصفحة 138