كتاب لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ

وأنت فقلت له: إن أنا استحضرت شيئا يعني حديثا تذكر له طرقه وكذا بالعكس لكن اذكر أنت على حدة وأنا كذلك. فقال ابن قاضي الجبل: اذكر أنت. فأخذت أذكر أحاديث معللة1 من أول أبواب الفقه وما زلت أذكر إلى أن طلع الفجر وقد وصلت إلى كتاب النكاح، فقام ابن قاضي الجبل وقبل بين عيني وقال: يا سراج الدين ما رأيت بعد الشيخ -يعني شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- أحفظ منك2.
وقال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي أيضًا: ذكر لي يوما أنه كان يحفظ صفحة من المحرر في الفقه للرافعي وهو كتابه من وقت ابتداء فلان الأعمى لشخص سماه بصلاة العصر إلى فراغه منها قال: وكانت صلاة خفيفة لم يكن يطول فيها، وقال أيضًا: لما كنا نسمع عليه بالقاهرة سنن الدراقطني أو سنن ابن ماجه -الشك مني- سألني شخص بحضوره عن حديث مر في القراءة أهذا صحيح أم لا فقلت للقارئ اذكر السند فذكره فإذا فيه عطية العوفي فقلت له: اتفقوا على تضعيف هذا فقال: الشيخ ليس كذلك فذكرت أنا قول الذهبي فيه فقال الشيخ: قد حسن له الترمذي حديثا فقلت: له أين؟ فقال: بعد ... 3 في حديث: "يا عليّ لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" ثم قام في المجلس فجاء بمختصر المنذري لسنن أبي داود فكشف منه شيئا ثم قال: أنا أحفظ هذا الكتاب ثم قال: هو دبوس شافٍ.
وحكى ولده قاضي القضاة جلال الدين أن والده كان يلقي الحاوي دروسا في أيام يسيرة من أعجبها أنه ألقاه في ثمانية أيام، وذكر بعض فضلاء الشام عنه أنه قال: إذا كان أخذ يدرس بالقاهرة أبقى ثلاث ليال وأربع ليال ما أنام أطالع على المكان الذي يدرس فيه. انتهى. وكان -رحمه الله تعالى- واسع العلم بحرا لا يجارى ولا تكدره الدلاء وحافظا لا يكاد يفوته من علوم البشر إلا ما لا خير فيه، دينا خيرا وقورا حليما مهابا4 سريع البادرة قريب الرجوع كثير التلطف سريع البكاء في الميعاد مع الخشوع لا يفتر عن الاشتغال والإشغال وكان يسرد مناسبة أبواب الفقه في قريب الكراس ويطرز ذلك بشواهد وفوائد بحيث إن سامعه يقضي أنه مستحضر فروع المذهب جميعا، اجتهد في آخر عمره واختار مسائل فانفرد بعلوم شتى ودارت عليه الفتوى وكانت العلماء في جميع الأقطار يعترفون له بالعلم والحفظ مع كثرة
__________
1 وعبارته المنقولة عنه في معجم الحافظ ابن حجر "فشرعت من أول أبواب الفقه أذكر الحديث وما يناسبه من تصحيح وتضعيف إلى أن طلع الفجر ... إلخ". "الطهطاوي".
2 وكان ابن قاضي الجبل ممن يتذرع بكل وسيلة إلى إطراء شيخه.
3 بياض في الأصل.
4 وصوابه "مهيبا". "الطهطاوي".

الصفحة 139