كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 5)

الحبشة، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه, ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني.
__________
الحبشة"، لم يقل: عظيم، كما قال في غيره، لما رأى فيه من العلامات الدالة على أنه يسلم، لما صنعه مع المسلمين الذين هاجروا إليه من الإحسان، ومنع الأذى ممن أراده بهم، ويحتمل أنه علم بالوحي أنه يسلم؛ فلذا وصفه بالملك.
وفي رواية الواقدي: سلم أنت بكسر فسكون، أي: مسالم أو مصالح، أو بمعنى الدعاء له أو البشارة بأن يكون ذا سلامة؛ لما علمه من صدقه ومحبته وحسن حاله، وللبيهقي عن ابن إسحاق سلام عليك، ولم يذكر هو، ولا الواقدي "أما بعد" بل عقب الواقدي قوله: سلم أنت، وابن إسحاق: سلام عليك بقوله: "فإني أحمد إليك الله" أي: أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن"، هكذا ذكرهما في الكتاب ابن إسحاق والواقدي، فكأنهما سقطا من قلم المؤلف، "وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله"، أي: ذو روح أضيف إليه تعالى تشريفا له؛ لأنه أوجده بلا أب، أو لأنه يحيي الأموات أو القلوب، "وكلمته" هي قوله تعالى: {كُنْ} [آل عمران: 59] ، فكان بشرا بلا أب، ولا واسطة، وقول البيضاوي: لعل جبريل تمثل لها بشرا سويا، خلقه شابا أمرد تستأنس بكلامه، لتهيج شهوتها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها.
قال السيوطي: كان في غنية عن هذا الكلام الفاسد، ولكن هذا ثمرة التوغل في الفلسفة انتهى، "ألقاها" أوصلها "إلى مريم البتول"، المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، وسميت فاطمة الزهراء بذلك؛ لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى "الطيبة الحصينة" بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، العفيفة فعيلة بمعنى مفعلة، "فحملت بعيسى، فخلقه من روحه"، وسقط من نسخة: فخلقه، لكنها ثابتة عند ابن إسحاق والواقدي، "ونفخه" أي: الله تعالى، أي: نفخ رسوله جبريل، كما قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] ، فأرسلنا إليها روحنا، فهو عطف تفسير للروح.
وفي القاموس: من جملة معانيها النفخ، "كما خلق آدم بيده"، بقدرته وقوته, إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم, خلقه من تراب, من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، "وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له"، لا كما تزعمه النصارى من التثليث وغيره، "والموالاة" المتابعة والمناصرة "على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني،

الصفحة 20