كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (اسم الجزء: 5)

وقال النووي: المختار أنَّه صبغ في وقت, وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى وهو صادق، قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين: ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه, فالجمع بينهما أنه رأى شيبًا يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير, ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير الشيب إلّا قليلًا، انتهى.
وعن جابر بن سمرة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته،
__________
"وقال النووي: المختار أنه صبغ" شعره حقيقةً؛ لأن التأويل خلاف الأصل "في وقت، وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى، وهو صادق"، وغاية ما يفيده هذا عدم الحرمة؛ لأنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، فلا يصح استدلال الشافعية به على قولهم: الخضاب بغير سواد سنة، فيحمل حديث من أثبت الخضاب على أنه فعله لإرادة بيان الجواز، ولم يواظب عليه، ويحمل نفي أنس على غلبة الشيب، حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتَّفق أنه رآه وهو يخضب، كما في الفتح, وما رواه الترمذي، عن أنس: رأيت شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبًا، فقد حكم الحفَّاظ بأنه شاذّ، وبينوا أوجه الشذوذ، فلا يقاوم ما في الصحيحين عنه من طرق كثيرة، أنه لم يخضّب، وعلى تقدير الصحة، جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سماه مخضوبًا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات إن صحَّ عنه أقلّها، "قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين" السابق قريبًا, أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة، "ولا يمكن تركه" لصحته، "ولا تأويل له" فيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعين الأول، وهو ما في سنن أبي داود، عن ابن عمر نفسه، كان يصبغ -صلى الله عليه وسلم- بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجَّحه عياض.
"وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه" المناسب لجمعه، أن يقول في أصل شيبه، أي: إثباته ونفيه، أمَّا لفظ قدر: فيقتضي الاتفاق على وجوده، والأمر بخلافه، إلّا أن يقال: لفظ قدر ينتهي إلى العدم، "فالجمع بينهما" أي: بين رواية الشيب وعدمه، وإن اشتمل على عدة أحاديث، "أنه"، أي: جنس الراوي، "رأى شيبًا" أي: بياضًا "يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه" أي: الشيب "أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير من الشيب إلا قليلًا، انتهى" كلام النووي. "وعن جابر بن سمرة"، وقد سئل عن شيبه -صلى الله عليه وسلم "فقال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط" بفتح المعجمة، وكسر الميم، "مقدم رأسه ولحيته" بالجر، أي: ومقدم لحيته، أي: خالط سوادهما بياض، وإطلاق الشمط على بياض اللحية حقيقي، كما في المغرب عن الليث،

الصفحة 504