كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

بِالْعِقَابِ وَشَدَّدَهُ، أَوْ عَظُمَ ضَرَرُهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَمَا عَدَاهُ صَغِيرَةٌ. فَهَذَا يَرْبِطُ لَكَ هَذَا الْبَابَ وَيَضْبِطُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ (مُدْخَلًا) بِضَمِّ الْمِيمِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ إِدْخَالًا، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَنُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَكَانِ فَيَكُونُ مَفْعُولًا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ دَخَلَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ وَنُدْخِلُكُمْ فَتَدْخُلُونَ مُدْخَلًا، وَدَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ فَيَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ [بِهِ «1»]، أَيْ وَنُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: يَقُولُ الله عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ، عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي). فَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي الْكَبَائِرِ فَأَيُّ ذَنْبٍ يَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْكَبَائِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تُغْفَرُ لِمَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا قَبْلَ الْمَوْتِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُغْفَرُ لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ عَلَى الذُّنُوبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَغَيْرِهِ مَعْنًى، إِذِ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا مَغْفُورٌ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا، قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وَقَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ «2») الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)
الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ «3») وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَمَانِ آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)، (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
__________
(1). من ب وج وط ود.
(2). راجع ص 245 من هذا الجزء وص 379 و195.
(3). راجع ج 6 ص 6

الصفحة 161