كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: نَزَلَتْ فِي جَمِيلَةَ بِنْتِ «1» أُبَيٍّ وَفِي زَوْجِهَا ثابت ابن قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمِيرَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَفِي زَوْجِهَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقِيلَ: سَبَبُهَا قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُنَّ تَكَلَّمْنَ فِي تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، فَنَزَلَتْ (وَلا تَتَمَنَّوْا) الْآيَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَفْضِيلَهُمْ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِرْثِ لِمَا عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْمَهْرِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ فَائِدَةُ تَفْضِيلِهِمْ عَائِدَةٌ إِلَيْهِنَّ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ فَضِيلَةٌ فِي زِيَادَةِ الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ، فَجُعِلَ لَهُمْ حَقُّ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: لِلرِّجَالِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فِي النَّفْسِ وَالطَّبْعِ مَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ طَبْعَ الرِّجَالِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ وَالْيُبُوسَةُ، فَيَكُونُ فِيهِ قُوَّةٌ وَشِدَّةٌ، وَطَبْعَ النِّسَاءِ غَلَبَ عَلَيْهِ الرُّطُوبَةُ وَالْبُرُودَةُ، فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى اللِّينِ وَالضَّعْفِ، فَجَعَلَ لَهُمْ حَقَّ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). الثَّانِيةُ- وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأْدِيبِ الرِّجَالِ نِسَاءَهُمْ، فَإِذَا حَفِظْنَ حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسئ الرَّجُلُ عِشْرَتَهَا. وَ (قَوَّامٌ) فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ، مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِبْدَادِ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَحِفْظِهِ بِالِاجْتِهَادِ. فَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا وَإِمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهَا وَمَنْعِهَا مِنَ الْبُرُوزِ، وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِالْفَضِيلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَقْلِ وَالْقُوَّةِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ وَالْمِيرَاثِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ رَاعَى بَعْضُهُمْ فِي التَّفْضِيلِ اللِّحْيَةَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ اللِّحْيَةَ قَدْ تَكُونُ وليس معها شي مِمَّا ذَكَرْنَا. وَقَدْ مَضَى الرَّدُّ عَلَى هَذَا في (البقرة «2»). الثالثة- فهم العلماء من قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوَّامًا عَلَيْهَا كَانَ لَهَا فَسْخُ الْعَقْدِ، لِزَوَالِ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ النِّكَاحُ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ثُبُوتِ فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْسَخُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «3») وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
__________
(1). في ب وج وز وط: جميلة بنت عبد الله بن أبى. قال في أسد الغابة: وقيل كانت ابنة عبد الله وهو وهم.
(2). راجع ج 3 ص 124.
(3). راجع ج 3 ص 371

الصفحة 169