كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ رُوِيَتْ عِنْدَنَا «1» رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَنَزَّلَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الْخِلَافَ عَلَى الْمُخَلِّطِ الَّذِي مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاخْتِلَاطَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُخْطِئُ وَيُصِيبُ. قَالَ: فَأَمَّا السَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيعِ أفعال وَأَحْوَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، إِلَّا فِيمَا ذَهَبَ وَقْتُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ بِإِدْخَالِهِ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ كَالْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: حَدُّ السُّكْرِ «2» اخْتِلَالُ الْعَقْلِ، فَإِذَا اسْتُقْرِئَ فَخَلَّطَ فِي قِرَاءَتِهِ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يُعْرَفُ جُلِدَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا تَغَيَّرَ عَقْلُهُ عَنْ حَالِ الصِّحَّةِ فَهُوَ سَكْرَانُ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إذا خلط في قراءته فهو سكران، استدلا لا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ). فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ تَجَنَّبَ «3» الْمَسْجِدَ مَخَافَةَ التَّلْوِيثِ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَإِنْ صَلَّى قَضَى. وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَأَتَى بِالصَّلَاةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّاحِي. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُنُباً) عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجُمْلَةِ الْمَنْصُوبَةِ فِي قَوْلِهِ: (حَتَّى تَعْلَمُوا) أَيْ لَا تُصَلُّوا وَقَدْ أَجْنَبْتُمْ. وَيُقَالُ: تَجَنَّبْتُمْ وَأَجْنَبْتُمْ وَجَنَّبْتُمْ بِمَعْنًى. وَلَفْظُ الْجُنُبِ لَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ الْمَصْدَرِ كَالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ. وَرُبَّمَا خَفَّفُوهُ فَقَالُوا: جَنْبٌ، وَقَدْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَوْمٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ جَنَبَ الرَّجُلُ وَأَجْنَبَ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَقِيلَ: يُجْمَعُ الْجُنُبُ فِي لُغَةٍ عَلَى أَجْنَابٍ، مِثْلَ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَطُنُبٍ وَأَطْنَابٍ. وَمَنْ قَالَ لِلْوَاحِدِ جَانِبٌ قَالَ فِي الْجَمْعِ: جُنَّابٌ، كَقَوْلِكَ: رَاكِبٌ وَرُكَّابٌ. وَالْأَصْلُ الْبُعْدُ، كَأَنَّ الْجُنُبَ بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاءِ الدافق عن حال الصلاة، قال:
فلا تحرمي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ «4»
وَرَجُلٌ جُنُبٌ: غَرِيبٌ. وَالْجَنَابَةُ «5» مُخَالَطَةُ الرَّجُلِ المرأة.
__________
(1). عندنا ساقط في ط.
(2). في ط وى: السكران.
(3). في ز: يجنب. في ى: يجتنب.
(4). راجع ص 183 من هذا الجزء.
(5). في ى: المجانبة. وهو المتبادر.

الصفحة 204