كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْفَرَجِ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْلِ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ مَنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَسْلَمُ مِنْ تَنَكُّبِ الْمَاءِ عَنْ بَعْضِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَعْجَبُ لِأَبِي الْفَرَجِ الَّذِي رَوَى وَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغُسْلَ دُونَ ذَلِكَ يُجْزِئُ! وَمَا قَالَهُ قَطُّ مَالِكٌ نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامِهِ. قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ نَصًّا، قَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الظَّاهِرِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ رَجُلٍ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالَ: مَضَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيهَا لَمْ يَتَدَلَّكْ وَلَا تَوَضَّأَ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَدَلَّكَ، قِيَاسًا عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. وَحُجَّةُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَقَدِ اغْتَسَلَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: غَسَلَتْنِي السَّمَاءُ. وَقَدْ حَكَتْ عَائِشَةُ وَمَيْمُونَةُ صِفَةَ غُسْلِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرَا تَدَلُّكًا، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا تَرَكَهُ، لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ عَنْهُ، كَمَا نُقِلَ تَخْلِيلُ أُصُولِ شَعْرِهِ بِالْمَاءِ وَغَرْفُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ غُسْلِهِ وَوُضُوئِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَغَيْرُ نَكِيرٍ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَرَّةً بِالْعَرْكِ «1» وَمَرَّةً بِالصَّبِّ وَالْإِفَاضَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يكون الله عز وجل تَعَبَّدَ عِبَادَهُ فِي الْوُضُوءِ بِإِمْرَارِ أَيْدِيهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَعَ الْمَاءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ غُسْلًا، وَأَنْ يُفِيضُوا الْمَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غُسْلًا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ غَيْرَ خَارِجٍ مِنَ اللُّغَةِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ، لَا يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْأُصُولَ لَا يُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا- وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْفُرُوعُ قِيَاسًا عَلَى الْأُصُولِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الرَّابِعَةُ عَشْرَةَ- حَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ يَرُدُّ مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ سَبْعًا وَفَرْجَهُ سَبْعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ سَبْعُ مِرَارٍ، وَغَسْلُ الْبَوْلِ من الثوب سبع مرار،
__________
(1). العرك: الدلك.

الصفحة 211