كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ حَتَّى جُعِلَتِ الصَّلَاةُ خَمْسًا، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ مَرَّةً «1»، وَالْغَسْلُ مِنَ الْبَوْلِ مَرَّةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَإِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ ضَعْفٌ وَلِينٌ، وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ قَدْ خَرَّجَهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُعْبَةُ هَذَا ليس بالقوي، ويرد هما حَدِيثُ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ. الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ- وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِمْرَارَ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونُ: يَجْعَلُ مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ يُعَالِجُهُ بِخِرْقَةٍ. وَفِي الْوَاضِحَةِ: يُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا يُدْرِكُهُ مِنْ جَسَدِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ حَتَّى يَعُمَّ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ يَدَاهُ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي تَخْلِيلِ الْجُنُبِ لِحْيَتَهُ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: ذَلِكَ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ شَعْرَهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَذَلِكَ عَامٌّ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ فِيهِ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَعَلَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاءُ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِ الْجَسَدِ فِي الْغُسْلِ وَاجِبٌ، وَالْبَشَرَةُ الَّتِي تَحْتَ اللِّحْيَةِ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَوَجَبَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا وَمُبَاشَرَتُهَا بِالْيَدِ. وَإِنَّمَا انْتَقَلَ الْفَرْضُ إِلَى الشَّعْرِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَنِيَابَةُ «2» الْأَبْدَالِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِيهَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغُسْلِ. قُلْتُ: وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ). السَّابِعَةُ عَشْرَةَ- وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فَأَوْجَبُوا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ وَحُكْمُهُمَا حُكْمُ ظَاهِرِ الْوَجْهِ كالخد والجبين، فمن تركهما وصلي الله عليه وسلم أَعَادَ كَمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً «3»، وَمَنْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَتَا بِفَرْضٍ لَا فِي الْجَنَابَةِ وَلَا فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُمَا بَاطِنَانِ [فَلَا يَجِبُ «4»] كَدَاخِلِ الْجَسَدِ. وَبِذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: هُمَا فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ إسحاق
__________
(1). في ج: ثلاث مرات.
(2). في اوج وح وو: وبيانه ألا يدلك، وفى ط وز: وبيانه الا بدال.
(3). اللمعة: الموضع لا يصيبه الماء في الوضوء أو الغسل.
(4). من ج.

الصفحة 212