كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ دَاوُدَ. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّ الْمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ وَالِاسْتِنْشَاقَ فَرْضٌ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُدَ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي كِتَابِهِ، وَلَا أَوْجَبَهُمَا رَسُولُهُ، وَلَا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ، وَالْفَرَائِضُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ. احْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا بِالْآيَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فَمَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنَ الْغُسْلِ وَجَبَ فِي الْآخَرِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي وُضُوئِهِ وَلَا فِي غُسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا. احْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَأَفْعَالُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَفَعَلَ الِاسْتِنْشَاقَ وَأَمَرَ بِهِ، وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ أَبَدًا. الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَا بُدَّ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنَ النِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) وَذَلِكَ يَقْتَضِي النِّيَّةَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ. وَعَضَّدُوا هذا وبقوله تَعَالَى: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ «1» الدِّينَ) وَالْإِخْلَاصُ النِّيَّةُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَصْدُ لَهُ بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَهَذَا عَمَلٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ: يُجْزِئُ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِنِيَّةٍ، قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ. التَّاسِعَةُ عَشْرَةَ- وَأَمَّا قَدْرُ الْمَاءِ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ، فَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شهاب عن عروة ابن الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ [أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ «2»] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ هُوَ الْفَرَقُ من الجنابة. (الفرق) تحرك رأوه وَتُسَكَّنُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: (الْفَرَقُ) مِكْيَالٌ مِنَ الْخَشَبِ، كَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقُولُ: إِنَّهُ يَسَعُ خَمْسَةَ أَقْسَاطٍ بِأَقْسَاطِ بَنِي أُمَيَّةَ. وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَعْشَى (الْفَرَقَ) فَقَالَ: ثَلَاثَةُ آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال:
__________
(1). راجع ج 20 ص 144.
(2). من ج وط.

الصفحة 213