كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

وَالزُّهْرِيِّ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) «1». قَالُوا: فَوَجَبَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى أَنْ يُوسِرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «2») الْآيَةَ. قَالُوا: فَنَدَبَ تَعَالَى إِلَى إِنْكَاحِ الْفَقِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ مَنْعُهُ إِلَى النِّكَاحِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهَا. وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَهُ تَحْتَ نَظَرِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي إِضَافَةِ الْمَالِ. فَالْوَصِيُّ يُنْفِقُ عَلَى الْيَتِيمِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ وَحَالِهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَالُهُ كَثِيرٌ اتَّخَذَ لَهُ ظِئْرًا وَحَوَاضِنَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ. وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا قَدَّرَ لَهُ نَاعِمَ اللِّبَاسِ وَشَهِيَّ الطَّعَامِ وَالْخَدَمَ. وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَبِحَسَبِهِ. وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَخَشِنَ «3» الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ قَدْرَ الْحَاجَةِ. فَإِنْ «4» كَانَ الْيَتِيمُ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَخَصِّ بِهِ فَالْأَخَصِّ. وَأُمُّهُ أَخَصُّ بِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ وَالْقِيَامُ بِهِ. وَلَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ «5»). الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أَرَادَ تَلْيِينَ الْخِطَابِ وَالْوَعْدَ الْجَمِيلَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ ادْعُوا لَهُمْ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَحَاطَكُمْ وَصَنَعَ لَكُمْ، وَأَنَا نَاظِرٌ لَكَ، وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَعِدُوهُمْ وَعْدًا حَسَنًا، أَيْ إِنْ رَشَدْتُمْ دَفَعْنَا إِلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. وَيَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ: مَالِي إِلَيْكَ مَصِيرُهُ، وَأَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صاحبه إذا ملكت «6» رشدك وعرفت تصرفك.

[سورة النساء (4): آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
__________
(1). راجع ج 3 ص 371.
(2). راجع 12 ص 239.
(3). في ج: فحسن.
(4). في ب: ولو.
(5). راجع ج 3 ص 160 و161.
(6). في ط وج وب وز: إذا ملكتم رشدكم وعرفتم تصرفكم.

الصفحة 33