كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

النُّونِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَعِلَّتُهُ أَنَّهُ جَعَلَ التَّشْدِيدَ عِوَضًا مِنْ أَلِفِ (ذَا) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (الْقَصَصِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَذانِكَ بُرْهانانِ «1»). وَفِيهَا لَغَةٌ أُخْرَى (اللَّذَا) بِحَذْفِ النُّونِ «2». هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّمَا حُذِفَتِ النُّونُ لِطُولِ الِاسْمِ بِالصِّلَةِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ (هَذَانِّ) وَ (فَذَانِّكَ بُرْهَانَانِ) بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا. وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَشَدَّدَ أَبُو عَمْرٍو (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) وحدها. و (الَّذانِ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، أَيِ الْفَاحِشَةَ (مِنْكُمْ). وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي (فَآذُوهُما) لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الَّذِي بِالْفِعْلِ تَمَكَّنَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِذْ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ شي بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الشَّرْطُ وَالْإِبْهَامُ فِيهِ جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ مَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْسُنْ إِضْمَارُ الْفِعْلِ قَبْلَهُمَا لِيُنْصَبَا رُفِعَا بِالِابْتِدَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَحْوَ قَوْلِكَ: اللَّذَيْنِ عِنْدَكَ فَأَكْرِمْهُمَا. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآذُوهُما) قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ السَّبُّ وَالْجَفَاءُ دُونَ تَعْيِيرٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) وَ (الَّذانِ يَأْتِيانِها) كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي (النُّورِ «3»). قَالَهُ النَّحَّاسُ: وَقِيلَ وَهُوَ أَوْلَى: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تأويل قوله تعالى: (وَاللَّاتِي) وقوله: (وَالَّذانِ) فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي النِّسَاءِ عَامَّةٌ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرَ مُحْصَنَاتٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيةُ فِي الرِّجَالِ خَاصَّةٌ. وَبَيْنَ لَفْظِ «4» التَّثْنِيَةِ صِنْفَيِ الرِّجَالِ مَنْ أُحْصِنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَعُقُوبَةُ النِّسَاءِ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةُ الرِّجَالِ الْأَذَى. وَهَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَيَسْتَوْفِي نَصُّ الْكَلَامِ أَصْنَافَ الزُّنَاةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَوْلُهُ فِي الْأُولَى: (مِنْ نِسائِكُمْ) وفي الثانية
__________
(1). راجع ج 13 ص 285.
(2). في ز: اللذا بحذف النون اللذان بفتح النون. كذا.
(3). راجع ج 12 ص 195.
(4). في ج وط وى: بلفظ.

الصفحة 86