كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 5)

الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) السُّوءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَ (الْأَنْعَامِ) (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ «1») يَعُمُّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، فَكُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ بِجَهَالَةٍ، عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْجَهَالَةُ هُنَا الْعَمْدُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، يُرِيدُ الْخَاصَّةَ بِهَا الْخَارِجَةَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا «2» لَعِبٌ وَلَهْوٌ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي قَوْلَهُ (بِجَهالَةٍ) اخْتِيَارَهُمُ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ. وَقِيلَ: (بِجَهالَةٍ) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَضُعِّفَ قَوْلُهُ هَذَا وَرُدَّ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالسَّوْقِ «3»، وَأَنْ يُغْلَبَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ حَيْثُ قَالَ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الْأَلْسُنِ
بَادِرْ بِهَا غَلْقَ «4» النُّفُوسِ فَإِنَّهَا ... ذُخْرٌ وَغُنْمٌ لِلْمُنِيبِ الْمُحْسِنِ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا صَحَّتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ بَاقٍ وَيَصِحُّ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ). قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَمَعْنَى مَا لَمْ يُغَرْغِرْ: مَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُهُ حُلْقُومَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَغَرْغَرُ به. قاله الهروي
__________
(1). راجع ج 6 ص 436.
(2). راجع ج 16 ص 257 وج 6 ص 414 وج 17 ص 254.
(3). السوق: النزع، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.
(4). يقال: غلق الرهن إذا لم يقدر على افتكاكه. يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة. [ ..... ]

الصفحة 92