كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

الأموات. وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات- انتهى-:
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب (طريق الهجرتين) نورده أيضا لبداعة أسلوبه. قال عليه الرحمة:
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلو مرّا، والخبيث طيبا، والطّيب خبيثا. وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة. فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حدّ الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال، إما فساد في الكمية أو في الكيفية فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها. والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك. ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي، واستفراغ الموادّ الفاسدة، ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة. وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة. فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان، ويقضي المسافر إذا قدم، والمريض إذا برأ، حفظا لقوتهما عليهما. فإن الصوم يزيد المريض ضعفا، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، فالصوم يضعفها. فأما الحمية عن المؤذي، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذي له في باطنه؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة، فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفّها، فنبّه به على ما هو أحوج إليه منه.
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال: والله! لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة، لكان سفرا قليلا أو كما قال- انتهى.
ثم ردّ تعالى على من حرّم شيئا من المآكل والمشارب والملابس، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، تأكيدا لما سبق، بقوله سبحانه.

الصفحة 45