كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بدّ من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة- فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض. وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبيّن أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها. ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عيّنه أو لم يعيّنه، لا سيما في الخطاب العلميّ الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] . ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات. ثم الأمّة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليّا ظاهرا مثل قوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد (أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها) . وكذلك قوله:
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعيّا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.

الصفحة 81