كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبّدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون. وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلقهما، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كما متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «1» : كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ، وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى، ودينه عزّ وجلّ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الجنائز، 79- باب إذا أسلم الصبيّ فمات هل يصلّى عليه، حديث 716 ونصه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء» ؟.
ثم يقول أبا هريرة رضي الله عنه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وأخرجه مسلم في: القدر، حديث رقم 22.

الصفحة 85