كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

أَنْ تَزُولا
[فاطر: 41] . فمن ظن أن معنى قول الأئمة (الله مستو على عرشه حقيقة) يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة وسمع وبصر حقيقة وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم، فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته. فكيف يكون العبد مستحقّا للأسماء الحسنى حقيقة، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى، فله المثل الأعلى. فكل كمال حصل للمخلوق، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه مخلوق، فالحق أحق أن ينزه عنه، ولهذا كان لله المثل الأعلى، فإنه لا يقاس بخلقه، ولا يمثل بهم، ولا تضرب به الأمثال، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. فإذا قال: وجود الله، وذات الله، وعلم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، وكلام الله، ورحمة الله، وغضب الله، واستواء الله، ونزول الله ومحبة الله، ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات. وإذا قال: وجود العبد وذاته وماهيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى. بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ما ذكره في كتابه. كما ذكر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا وغير ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق. فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض، مع أن

الصفحة 88