كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول: العرب إنما وضعوا لفظ (الاستواء) لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجوديّ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات. فهو كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا، وأصمخة وآذانا، وشفتين ولسانا، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد،
وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولا لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي، والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح. ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات: فإذا أثبتوا البعض، ونفوا البعض، قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا. ونظائر هذا كثيرة، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته، إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم، كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته، وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد. وإن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضا في قوله، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطّراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والشرع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة- انتهى-.

الصفحة 89