كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 5)

ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها، وليس بكري. فإن كان الأول، فمن المعلوم- باتفاق من يعلم هذا- أن الأفلاك مستديرة كرية، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهو المحدود، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان:
العلوّ والسفل فقط. وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو للعلوّ، والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي على الناس والبهائم وغيرهما. فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحدا، لكان على ظهر الأرض، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه. كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشماليّ تحت الجنوبيّ، ولا بالعكس، وإن كان الشماليّ هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو (تحت) إضافي. كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيانه، وكذلك من علق منكوسا، فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته. وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة. وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره. ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم. فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلوّ. ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلا من غير جهة العلوّ،

الصفحة 96