كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (اسم الجزء: 5)

أَمَّا أَوَّلُهَا: فَبُطْءُ إِسْلامِي حَتَّى سُبِقْتُ فِي مَوَاطِنَ كُلِّهَا صَالِحَةٍ، وَنَجَوْتُ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْتُ: لا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَلا أُوضَعُ مَعَ قُرَيْشٍ مَا بَقِيتُ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ يَشْرَحَ قَلْبِي لِلإِسْلامِ وَذَلِكَ أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَقَايَا مِنْ قُرَيْشٍ لَهُمْ أَسْنَانٌ مُتَمَسِّكِينَ [1] بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَا لَيْتَ أَنِّي لَمْ أَقْتَدِ بِهِمْ، فَمَا أَهْلَكَنَا إِلا اقْتِدَاؤُنَا بِآبَائِنَا [2] وَكُبَرَائِنَا، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلْتُ أُفَكِّرُ، وَأَتَانِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حُرْبٍ، فَقَالَ: أَبَا خَالِدٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ فِي جُمُوعِ يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ تَابِعِي إِلَى شَرَفٍ نَتَرَوَّحُ الْخَبَرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا نَتَحَدَّثُ وَنَحْنُ مشاة حتى إذا 109/ ب كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّهْمِ [3] مِنَ النَّاسِ، فَلَقِيَ الْعَبَّاسُ/ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبَا سُفْيَانَ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فرجعت إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْتُ بَيْتِي وَآمَنَ النَّاسُ، فَجِئْتُهُ صلّى الله عليه وسلّم بَعْدَ ذَلِكَ بِالْبَطْحَاءِ وَأَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُهُ وَشَهِدْتُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ. فَأَعْطَى رِجَالا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالأَمْوَالِ، وَسَأَلْتُهُ حِينَئِذٍ فألحقت المسلة. قَالَ مُحَمَّد بْن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالا: حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِحُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِسْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، فَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» .
فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ لا أَزْرَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمَرُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَدْعُوهُ إِلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَزْرَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى توفي.
__________
[1] في التهذيب: «مستمسكين» .
[2] في ت: «أهلكنا الاقتداء بآبائنا» .
[3] الدهم: الجماعة الكبيرة.

الصفحة 270