كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)
صفحة رقم 188
ولما كان تصيير الماء دماً أمراً بالغاً خارجاً عن التسبيب ، وكانت النطفة التي هي مبدأ الآدمي تفسد تاة وتأخذ في التكون أخرى ، عبر بالخلق لما يخلطها به مما تكتسبه من الرحم عند التحمير وقرنه بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي بعد تراخ في الزمان وعلو في الرتبة والعظمة ) خلقنا ) أي بما لنا من العظمة ) النطفة ) أي البيضاء جداً ) علقة ( حمراء دماً عبيطاً شديد الحمرة جامداً غليظاً .
ولما كان ما بعد العلقة من الأطوار المتصاعدة مسبباً كل واحد منه عما قبله بتقدير العزيز العليم الذي اختص به من غير تراخ ، وليس تسببه من العادة التي يقدر عليها غيره سبحانه ، عبر بالفاء والخلق فقال : ( فخلقنا العلقة مضغة ) أي قطعة لحم صغيرة لا شكل فيها ولا تخطيط ) فخلقنا المضغة ( بتصفيتها وتصلبيها بما سببنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ) عظاماً ( من رأس ورجلين وما بينهما ) فكسونا ( بما لنا من قدرة الاختراع ، تلك ) العظام لحماً ( بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظماً ، فسترنا تلك العظام وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب .
ولما كان التصوير ونفخ الروح من االجلالة بمكان أيّ مكان ، اشار إليه بقوله : ( ثم أنشأناه ) أي هذا المحدث عنه بعظمتنا ) خلقاً آخر ) أي عظيماً جليلاً متحركاً ناطقاً خصيماً مبيناً بعيداً من الطين جداً ؛ قال الرازي : وأصل النون والشين والهمزة يدل على ارتفاع شيء وسموه .
ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق : ( فتبارك ) أي ثبت ثباتاً لم يثبته شيء ، بأن حاز جميع صفات الكمال ، وتنزه عن كل شائبة نقص ، فكان قادراً على كل شيء ، ولو داناه شيء من عجز لم يكن تام الثبات ، ولذلك قال : ( الله ( فعبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ؛ وأشار إلى جمال الإنسان بقوله : ( أحسن الخالقين ) أي المقدرين ، أي قدر هذا الخلق العجيب هذا التقدير ، ثم طوره في أطواره ما بين طفل رضيع ، ومحتلم شديد ، وشاب نشيط ، وكهل عظيم ، وشيخ هرم - غلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير .
ولما كانت إماتة ما صار هكذا - بعد القوة العظيمة والإدراك التام - من الغرائب ، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً ، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً ، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له ، اشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد : ( ثم إنكم ( ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم ، نزع الجار فقال : ( بعد ذلك ) أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ) لميتون ( وأشار بهذا النعت