كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)
صفحة رقم 195
طينة الإنسان على سائر الطين ، وعلى أن الفالح بالإرث والحياة الطيبة في الدارين مخصوص لالمؤمنين كما ذكر أول السورة ، فذكر نوحاً لأن قصته أشهر القصص ، ولأن قومه كانوا ملء الأرض ، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا نفعتهم قوتهم ، ولأنه الأب الثاني بعد الأب الأول المشار إليه بالطين ، ولأن نجاته ونجاة المؤمنين معه كانت بالفلك المختوم به الآية قبله ، فقال : ( ولقد ارسلنا ( إشارة بصيغة العظمة إلى زيادة التسلية بأنه ( آتاه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ) وقاخ هو ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك حق القيام ) نوحاً ) أي وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام ) إلى قومه ( وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة ) فقال ) أي فتسبب عن ذلك أن قال : ( يا قوم ( ترفقاً بهم ) اعبدوا الله ) أي ا لملك الأعظم الذي لا كفوء له ، وحده ، لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال ؛ واستأنف على سبيل التعليل قوله : ( ما لكم ( وأغْرق في النفي بما هو حق ا لعبادة فقال : ( من إله ( اي معبود بحق ) غيره ( فلا تعبدوا سواه .
ولما كانت أدلة الوحادنية والعظمة بإعطاء الثواب وإحلال العقاب في غاية الظهور لا تحتاج إلى كبير تأمل ، تسبب عن ذلك إنكاره لأمنهم من مكره ، والخوف من ضره ، فقال : ( افلا تتقون ( اي تخافون ما ينبغي الخوف منه فتجعلوا لكم وقاية من عذابه فتعملوا بما تقتضيه التقوى من إفراده بالعبادة خوفاً من ضركم ورجاء لنفعكم ) فقال ) أي فتسبب عن ذلك أن كذبوه فقال : ( الملؤا ) أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور عظمة .
ولما كان أهل الإيمان كلهم إذ ذاك قبيلة واحدة لاجتماعهم في لسان واحد قدم قوله : ( الذين كفروا ) أي بالله لأن التسلية ببيان التكذيب أتم ، والصلة هنا قصيرة لا يحصل بها لبس ولا ضعف في النظم بخلاف ما يأتي ، وكأن أفخاذهم كانت متمايزة فزاد في الشناعة عليهم بأن عرف أنهم من أقرب الناس إليه بقوله : ( من قومه ما هذا ) أي نوح عليه الصلاة والسلام ) إلا بشر مثلكم ) أي فلا يعلم ما لا تعلمون ، فأنكروا أن يكون بعض البشر نبياً ، ولم ينكروا أن يكون بعض الطين إنساناً ، وبعض الماء علقة ، وبعض العلقة مضغة - إلى آخره ، فكأنه قيل : فما حمله على ذلك ؟ فقالوا : ( يريد أن يتفضل ( اي يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ) عليكم ( لتكونوا أتباعاً له ، ولا خصوصية له به دونكم .
ولما كان التقديرم فلم يرسله الله كما ادعى ، عطف عليه قولهم : ( ولو شاء الله ( اي الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ) لأنزال ( لذلك ) ملائكة ( وما علموا أن القادر على تفضيل بعض الجواهر بجعلها ملائكة قادر على تفضيل ما شاء ومن شاء بما يشاء من الملائكة وغيرها .