كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)

صفحة رقم 23
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح ، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح ، فيظهر الفساد من الصلاح ، إلى شيء يتسع فيه المجال ، ولا يقوم عليه دليل ، فيمكن فيه الرد ، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله : ( قال فما ) أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك غلى العلم بكل موجود أني أقول لك : فما ) بال ) أي خبر ) القرون الأولى ( الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله ، وهو وأن كان حيدة ، هو من أمارات الانقطاع ، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع .
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة ، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك ، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك ) قال ( قاطعاً له عنه : ( علمها عمد ربي ) أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج .
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب ، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك ، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم : ( في كتاب ) أي اللوح المحفوظ .
ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه ، نفى ذلك بقوله : ( لا يضل ربي ) أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه ، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل ) ولا ينسى ) أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم ، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسال عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون ؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال : ( الذي جعل لكم ( أيها الخلائق ) الأرض ) أي أكثرها ) مهداً ( تفترشونها ، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها ، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً - إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف ) وسلك لكم فيها سبلاً ) أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال ، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك ، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً ، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة ، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع ) وأنزل من السماء ماء ( تشاهدونه في اللون والطعم .

الصفحة 23