كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)

صفحة رقم 239
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب ، فصان بذلك الدماء والأموال ، علم أن التقدير : فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين ، لما فعل بكم ذلك ، ولفضح المذنبين ، وأظهر سرائر المستخفين ، ففسد النظام ، وأطبقتم على التهاون بالأحكام ، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله : ( ولولا فضل الله ) أي بما له من الكرم والجمال ، والاتصاف بصفات الكمال ) عليكم ورحمته ) أي بكم ) وأن الله ) أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ) تواب ( اي رجاع بالعصاة إليه ) حكيم ( يحكم المور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور ، لفضح كل عاص ، ولم يوجب اربعة شهداء ستراً لكم ، ولأمر بعقوبته بما توجيه معصيته ، ففسد نظامكم ، واختل نقضكم وإبراكم ، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه ، فتذهب النفس فيه كل مذهب ، فهو كما قالوا : رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به ، ثم علل ما اقتضته ) لولا ( من نحو : ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم ، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق ، منبهاً لهم على أن ذلك يجر غلى مفسدة كبيرة : ( إن الذين جاؤوا بالإفك ) أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله غلى ضده ، المقلوب عن وجهه غلى قفاه ، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام ، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم ، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه ، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام ، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام ) عصبة ) أي جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون ، فهم لكونهم عصبة يحمى بعضهم لبعض فيشتد أمرهم ، لأن مدار مادة ( عصب ) على الشدة ، وهم مع ذلك ) منكم ) أي ممن يعد عندكم في عداد المسلمين ، فلو فضحهم الله في جميع ما أسروه وأعلنوه ، وأمركم بأن تعاقبوهم بما يستحقون على ذلك ، لفسدت ذات البين ، بحايتهم لأنفسهم وهم كثير ، وتعصّب أودّائهم لهم ، إلا بأمر خارق يعصم به من ذلك كما كشفت عنه التجربة حين خطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي ) حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم النبي صلى الله عليه سلم ، فالله سبحانه برحمته بكم يمنع من كيدهم ببيان كذبهم ، وبحكمته يستر عليهم ويخفيهم ، اتنحسم مادة مكرهم ، وتنقطع أسباب ضرهم .
ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم ، أتبعه قوله ، تحقيراً لأمرهم مخاطباً

الصفحة 239