كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)
صفحة رقم 24
ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول .
استغرق ( صلى الله عليه وسلم ) في بحار الجلال ، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكالم هم المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان ، فعبر عن ذلك ، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله : ( فأخرجنا ) أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة ) به أزواجاً ) أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شيبه له ) من نبات شتى ) أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم ؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل ) أخرجنا ( : ( كلوا ) أي ما دبره لكم بحكته منها ) وارعوا ) أي سرحوا في المراعي ) أنعامكم ( ما أحكمه لها ولا يصلح لكم ، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم ، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يقدرون على أكله ، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها ، وتباين أصنافها ، وتباعد أوصافها ، وعلى كثرتهم ، وتنائي أمزجتهم ، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره ، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا لد أن يظهر له فيه نقث ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت .
ولما كمل هذا البرهان القويم ، دالاً على العليم الحكيم ، قال منبهاً على انتشار أنواره ، وجلالة مقداره ، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين : ( أن في ذلك ) أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة ) لآيات ( على منشئه ) لأولي النهى ( العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه ، وما لا ينفع في حكم العدم ، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن اسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل ، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت :
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً فقلت الا يا اذهب وهارون فادعوا ألى الله فرعون الذي كان باغياً فقولا له آأنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا وقولا له آأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذن بك بانيا وقولا له آأنت سويت وسطها منيراً إذا ما حنه الليل هادياً وقولاله من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الزرع ضاحياً وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيخرج منه البقل يهتز رابياً ويخرج منه حبه في رؤوسه وفي ذاك ىيات لمن كان واعياً