كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 5)

صفحة رقم 614
حكمهم لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم ) يتفكرون ) أي يستعملون افكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك .
ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى ، المخلوقين من الأرض ، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان ، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة ، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متدماً على عكس ما كان في الإنسان ، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً - بعد ما ذكر من آيات الأنفس - إلى آيات الآفاق : ( من آياته ) أي الدالة على ذلك ، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً غلى حالة واحدة ، عبر بالمصدر فقال : ( خلق السماوات ( على علوها وإحكامها ) والأرض ( على اتساعها وإتقانها .
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة ، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره ، وتكوينه وتدبيره : ( واختلاف ألسنتكم ) أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ، لا حد ولا رخاوة ، ولا لكنة ولا فصاحة ، ولا إسهاب ولا وجازة ، وغير ذلك من صفات النمطق وأحواله ، ونعوته وأشكاله ، وأنتم مننفس واحدة ، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة .
ولما كان لون السماء واحداً ، وألوان الأراضي يمكن حصرها ، قال : ( وألوانكم ( اي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة ، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف ، ولضاعت المصالح ، وفاتت المنافع ، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها ، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها ، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض ، فإن كان للسماء فلونها واحد ، وإن كان للأرض فلون اهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم .
وأما الألسنة فأمرها أظهر .
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال : ( إن في ذلك ( اي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه ) لآيات ) أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطابئع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية ، ومع بعدها مضمحلة متلاشية ) للعالمين ( كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم ، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم ، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته ، ففيه إشارة إلى ، هم عدم ، فلا تبكيت أوجع منه .

الصفحة 614