كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب (اسم الجزء: 5)

الغناء، [و] [1] إذا صنع شيئا صنعه صنعة محكمة، ومخارق لتمكّنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدّى صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيّه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه.
وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدّثنى أبى قال: اجتمعت مع إسحاق يوما فى بعض دور بنى هاشم، وحضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته:
ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلىّ فهلّا نفس ليلى شفيعها!
فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت! فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق وعينيه وجلس [2] بين يديه وسرّ بقوله سرورا كثيرا؛ ثم قال: أنت سيدى وابن سيدى [وأستاذى [3]] وابن أستاذى، ولى إليك حاجة.
قال: قل، فو الله إنى أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل أنا عندك أم مخارق؟
فإنى أحبّ أن أسمع منك فى هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرّفنى به.
فقال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، فلا ترد أن يجرى فى هذا شىء. قال: سألتك بحقّى عليك وبتربة أبيك وبكل حقّ تعظّمه إلا حكمت! فقال: ويحك! والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأمّا إذا أبيت إلا ذكر ما عندى، فلو خيّرت أنا من يطارح جوارىّ ويغنّينى لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيّتما بين يدى خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه وقام وقال: أفّ من رضاك وغضبك! وكان الواثق بالله يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلّى كلّ سابق نادر
__________
[1] زيادة نراها لازمة.
[2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وصلى» .
[3] زيادة من الأغانى.

الصفحة 10