كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب (اسم الجزء: 5)

وأقبل علىّ وسكّن منى [1] ، وأمر جدّى بالانصراف؛ وأما إلى الجماعة فحدّثونى وسقيت أقداحا [2] وغنّى المغنون جميعا؛ وأومأ إلىّ إسحاق بعينه أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أملح وأجمل بك. فلما جاءت النّوبة إلىّ أخذت عودا ممن كان إلى جنبى وقمت قائما واستأذنت فى الغناء؛ فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا؛ فغنيّت لحنى الأوّل، فطرب واستعاده ثلاث مرّات وشرب عليه ثلاثة أنصاف. ثم غنيّت الثانى فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرور وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابى وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك كله معى. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولىّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعانى وأمرنى أن أغنّى، فأعرّفه يمينى فيستأذن الخليفة فى ذلك، فإن أذن لى فى الغناء علم أنه ولىّ عهد وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعانى فى ايام المعتصم وسأله أن يأذن لى فى الغناء، فأذن لى ثم دعانى من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّى وأسرار الخلفاء قبلى! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك! لا يبلغنى أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فو الله لئن امتنعت لأضربن عنقك! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلّق من كان عندك يومئذ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة. فقمت وأنا لا أعقل جزعا منه؛ فأعتقت جميع ما كان بقى عندى من مماليكى الذين حلفت يومئذ وهم فى ملكى ثم تصدّقت بجملة، واستفتيت فى يمينى أبا يوسف القاضى حتى خرجت منها؛ وغنيّت بعد ذلك إخوانى جميعا حتى اشتهر أمرى، وبلغ المعتصم خبرى فتخلّصت منه.
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأقبل على الجماعة وشكر منى الخ» .
[2] فى الأغانى: «وسقيت الجماعة وغنى الخ» .

الصفحة 25