كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب (اسم الجزء: 5)

وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبير قال: كنا عند أبى عيسى بن الرشيد فى زمن ربيع وعندنا مخارق وعلّويه وعبد الله بن العباس الربيعىّ وعبد الله بن الحارث بن بسخنّر ونحن مصطبحون فى طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتّح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيّمة غيما مطبقا وقد بدأت ترشّ رشّا ساكبا، فنحن فى أكمل نشاط وأحسن يوم، إذ خرجت قيّمة دار أبى عيسى فقالت: يا سيّدى، قد جاءت عساليج؛ قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه. قال: فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة والأدب فى يدها عود فسلّمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست. وغنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، لم تدع أحدا ممن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته فأدّته على غاية الإحكام؛ فطربنا واستحسنّا غناءها وخاطبناها بالاستحسان؛ وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر اليها. فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتى يا عبد الله! فقال: لا والله يا سيّدى وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء. فقال له: ويحك! فهذا والله هو العشق وسببه. ورب جدّ جرّه اللعب. قال: وشربنا؛ فلما غلب النبيذ على عبد الله غنّى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنّى فيما بينها هزجا فى شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو:
نطق المكتوم منّى فبدا ... كم ترى المكتوم منّى لا يضح
سحر عينيك إذا ما رنتا ... لم يدع ذا صبوة أو يفتضح
ملكت قلبا فأمسى غلقا ... عندها صبا بها لم يسترح [1]
__________
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل:
ملكت نفسى وأمسى علقا ... عندنا صبا بها لم يسترح

الصفحة 28