كتاب ملء العيبة

سيحا على الوجوه إلى أن ارتفع المطر وأصحت السماء، وأوقد الناس النيران، وتدفئوا ونشفوا أثوابهم، ولم يكن أصابنا من وقت خروجنا من الشام إلى تلك الليلة مطر لطفا من الله بنا، وكان المطر ينزل أمامنا فما نقدم منزلا إلا ألفيناه قد مطر بين أيدينا، وكأنما أرسل هذا المطر هدية إلينا ليطهرنا، ويفيض من البركات علينا فمكثنا هناك على مهاد القلق وفرش الشوق لم نكتحل بنوم.
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
إلى أن بقي من الليل نحو الربع وأخذنا في الرحيل، وارتفعت أصوات الحداة، وخفت الركاب واختفت، واهتاجت القلوب وخفقت، وهمعت الدموع حتى لقد كاد يسمع وقعها، ولمعت البروق من آفاق طيبة وتتابع لمعها، فما لمع برق إلا ضج الناس بالتسليم على النبي الكريم، فلله تلك الساعة، ما كان أطيبها، وتلك الأصوات ما كان أعذبها وأطربها.
فرحا بمغناه المقدس تربه ... فرح المحب مبشرا بقبول
إلى أن تنفس الصبح وقد تراءت أعلام طيبة، مطوقة بالنور متوجة بالهيبة، وقد كدنا من الطرب نطير، وعاينا مرأى بديعا ما له في الوجود من نظير، وحين دنونا من جدران المدينة نفحتنا روائح كأنها العبير، فمن الناس من أقدمت به أريحية الشوق فتقدم، ومنهم من تأخرت به الهيبة فأحجم وما أقدم، حتى سكنت منه الحال، وتأهب لمشاهدة ذلك الجلال.

الصفحة 17