كتاب الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (اسم الجزء: 5)

وَالْقرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو. فَبَايعٌ نَفْسَهُ. فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا"
ــ
بما يليق به ضاءت له عواقب أحواله ووَضَحَتْ له مصالح أعماله فظفر بمطلوبه وحصل له من الثواب على مرغوبه كما قيل:
فقل مَن جدَّ في أمرٍ تَطَلَّبَهُ ... واستَعْمَل الصبرَ إلا فاز بالظفرِ
قال النووي: يعني أن الصبر المحبوب في الشرع ضياء وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر أيضًا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا يعني أن الصبر محمود لا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب، قال إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة، وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بِحُسْن الأدب، وقال أبو علي الدقّاق: حقيقة الصبر أن لا يعترض على المقدور، فأما إظهار البلاء لا على وجه الشكوى فلا ينُافي الصبر، قال الله تعالى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مع أنه قال {إني مسني الضر} والله أعلم. اهـ (والقرآن حجة) أي شاهد (لك) بالإيمان إن صدقته وعملت بما فيه (أو) شاهد (عليك) إن خالفته ولم تعمل بما فيه، قال القرطبي: يعني أنك إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه كان حجة لك في المواقف التي تُسأل عنه فيها كمسألة الملكين في القبر والمسألة عند الميزان وفي عقبات الصراط وإن لم تمتثل ذلك احتُجَّ به عليك، ويحتمل أن يُراد به أن القرآن هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية فبه تَسْتَدِلُّ على صحة دعواك وبه يستدل عليك خصمك (كل الناس يغدو) أي يُبكرُ في أشغاله (فبائع) أي فمنهم بائع (نفسه) بطاعات الله تعالى (فمُعتقها) أي فيُعتقها من العذاب (أو) بائع نفسه للهوى والنفس والشيطان أي بائع بمعصية الله تعالى فـ (مُوبقها) أي يُهلكها بالعذاب باتباع ما ذُكر أي بالمعاصي، وفي المفهم: (كل الناس يغدو) أي يُبكِّر يقال غَدَا إذا خرج صباحًا في مصالحه يغدو غدوًا وراح إذا رجع بعَشيِّ، ومعنى ذلك أن كل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره متصرفًا في أغراضه ثم إما تكون تصرفاته بحسب دواعي الشرع والحق فهو الذي يبيع نفسه من الله تعالى وهو بيع آيل إلى عتقٍ وحرِّية، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: ١١١] وإما أن تكون تصرفاته بحسب دواعي الهوى والشيطان فهو الذي باع نفسه من الشيطان فأوبقها أي أهلكها، ومنه قوله تعالى {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: ٣٤] ومنه قول ابن مسعود: "الناس

الصفحة 171