كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 5)

لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الطَّرِيقِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِنَاءً غَيْرَ مَمْلُوكٍ؛ فَلِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ، وَإِنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً فَبِيعَتْ دَارٌ فِيهَا فَلَا شُفْعَةَ إلَّا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْعَامَّةَ إبَاحَةٌ مَعْنًى، لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ فِي حُكْمِ غَيْرِ النَّافِذِ، وَالطَّرِيقُ النَّافِذُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ مَا لَا يَمْلِكُ أَهْلُهُ سَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُ عَامَّةً فَيُشْبِهُ الْإِبَاحَةَ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ النَّهْرُ إذَا كَانَ صَغِيرًا يُسْقَى مِنْهُ أَرَاضِي مَعْدُودَةٌ أَوْ كُرُومٌ مَعْدُودَةٌ فَبِيعَ أَرْضٌ مِنْهَا أَوْ كَرْمٌ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ كُلَّهُمْ شُفَعَاءُ، يَسْتَوِي الْمُلَاصِقُ وَغَيْرُ الْمُلَاصِقِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ كَبِيرًا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ بِمَنْزِلَةِ الشَّوَارِعِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا تَجْرِي فَهُوَ صَغِيرٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحُدَّ هَذَا بِحَدٍّ هُوَ عِنْدِي عَلَى مَا أَرَى حِينَ يَقَعُ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يُسْقَى مِنْهُ مَرَاحَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، أَوْ بُسْتَانَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا.
وَالْقَاضِي لَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ شُرَكَاءُ النَّهْرِ بِحَيْثُ يُحْصَوْنَ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانُوا مِائَةً فَمَا دُونَهُمْ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فَإِنْ رَآهُ صَغِيرًا قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ رَآهُ كَبِيرًا قَضَى بِهَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ، وَلَوْ نَزَعَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ نَهْرٌ آخَرُ فِيهِ أَرْضُونَ، أَوْ بَسَاتِينُ، وَكُرُومٌ فَبِيعَ أَرْضٌ، أَوْ بُسْتَانٌ شُرْبُهُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ النَّازِعِ فَأَهْلُ هَذَا النَّهْرِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِشُرْبِ النَّهْرِ النَّازِعِ؟ فَكَانُوا أَوْلَى كَمَا فِي السِّكَّةِ الْمُنْشَعِبَةِ مِنْ سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَلَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ عَلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ كَانَ أَهْلُهُ، وَأَهْلُ النَّهْرِ النَّازِعِ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءً لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الشُّرْبِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَرَاحٍ وَاحِدٍ فِي وَسَطِ سَاقِيَةٍ جَارِيَةٍ شُرْبُ هَذَا الْقَرَاحِ مِنْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَبِيعَ الْقَرَاحُ فَجَاءَ شَفِيعَانِ أَحَدُهُمَا يَلِي هَذِهِ النَّاحِيَةَ فِي الْقَرَاحِ، وَالْآخَرُ يَلِي الْجَانِبَ الْآخَرَ قَالَ هُمَا شَفِيعَانِ فِي الْقَرَاحِ وَلَيْسَتْ السَّاقِيَةُ بِحَائِلَةٍ؛ لِأَنَّ السَّاقِيَةَ مِنْ حُقُوقِ هَذَا الْقَرَاحِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا كَالْحَائِطِ الْمُمْتَدِّ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ السَّاقِيَةُ بِجِوَارِ الْقَرَاحِ وَيَشْرَبُ مِنْهَا أَلْفُ جَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْقَرَاحِ، فَأَصْحَابُ السَّاقِيَةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الشُّرْبِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ لِمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ صَاحِبِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي عَيْنِ الْعَقَارِ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا حَائِطٌ بِأَرْضِهِ فِي الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْحَائِطِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْحَائِطِ، فَالشَّرِيكُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى بِالْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ لَيْسَ بِشَرِيكٍ فِي الدَّارِ بَلْ هُوَ جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ.
وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا بِئْرٌ فِي الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْبِئْرِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْبِئْرِ فَالشَّرِيكُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبِئْرِ أَحَقُّ بِالْبِئْرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْبِئْرِ جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَكَذَلِكَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عُلُوٌّ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ نَصِيبَهُ فَلِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ، وَلِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ الشُّفْعَةُ فِي الْعُلُوِّ وَلَا شُفْعَةَ لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ فِي الْعُلُوِّ، وَلَا لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ فِي السُّفْلِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ فِي السُّفْلِ جَارُ الْعُلُوِّ، وَشَرِيكُهُ فِي حُقُوقِ الْعُلُوِّ - وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِيهِ لَيْسَ بِشَرِيكٍ لَهُ فِي الْعُلُوِّ - وَالشَّرِيكُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْحُقُوقِ وَشَرِيكُهُ فِي الْعُلُوِّ جَارٌ لِلسُّفْلِ، أَوْ شَرِيكُهُ فِي الْحُقُوقِ إذَا كَانَ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِي تِلْكَ الدَّارِ وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ فَكَانَ الشَّرِيكُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ أَوْلَى.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عُلُوٌّ عَلَى دَارٍ وَطَرِيقُهُ فِيهَا وَبَقِيَّةُ الدَّارِ لِآخَرَ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ الْعُلُوَّ بِطَرِيقِهِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي الْعُلُوِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا وَالْعُلُوُّ

الصفحة 9