كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 5)

الْعُدْوَانَ مِنْ الْمُضَارِبِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ الثَّانِي، وَلِأَنَّا لَوْ رَدَدْنَا رِبْحَ الثَّانِي كُلَّهُ فِي الشَّرِكَةِ الْأُولَى، لَاخْتَصَّ الضَّرَرُ بِرَبِّ الْمَالِ الثَّانِي، وَلَمْ يَلْحَقْ الْمُضَارِبَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرِ، وَالْعُدْوَانُ مِنْهُ، بَلْ رُبَّمَا انْتَفَعَ إذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ الْأَوَّلُ النِّصْفَ وَالثَّانِي الثُّلُثَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِفَسَادِ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ بِصِحَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهَا، وَجَبَ صَرْفُ حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ إلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجِبِ الشَّرْطِ. وَالنَّظَرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ رَبُّ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى مِنْ رَبِّ الثَّانِيَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ. وَتَعَدِّي الْمُضَارِبِ إنَّمَا كَانَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، وَاشْتِغَالِهِ عَنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ عِوَضًا، كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ آجَرَ نَفْسَهُ، أَوْ تَرَكَ التِّجَارَةَ لِلَّعِبِ، أَوْ اشْتِغَالٍ بِعِلْمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْجَبَ عِوَضًا، لَأَوْجَبَ شَيْئًا مُقَدَّرًا، لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِرِبْحِهِ فِي الثَّانِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْل دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً وَاشْتَرَطَ النَّفَقَةَ]
(٣٦٧٩) فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً، وَاشْتَرَطَ النَّفَقَةَ، فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِضَاعَةً أَوْ مُضَارَبَةً، وَلَا ضَرَرَ فِيهَا. فَقَالَ: أَحْمَدُ إذَا اشْتَرَطَ النَّفَقَةَ، صَارَ أَجِيرًا لَهُ، فَلَا يَأْخُذُ. مِنْ أَحَدٍ بِضَاعَةً، فَإِنَّهَا، تَشْغَلُهُ عَنْ الْمَالِ الَّذِي يُضَارِبُ بِهِ.
قِيلَ: فَإِنْ كَانَتْ لَا تَشْغَلُهُ؟ فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شُغْلٍ. وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَإِنْ فَعَلَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ.
(٣٦٨٠) فَصْلٌ: وَإِنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ آخَرَ بِضَاعَةً، أَوْ عَمِلَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ اتَّجَرَ فِيهِ، فَرِبْحُهُ فِي مَالِ الْبِضَاعَةِ لِصَاحِبِهَا، وَفِي مَالِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.

(٣٦٨١) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مِائَةً قِرَاضًا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ آخَرَ مِثْلَهَا، وَاشْتَرَى بِكُلِّ مِائَةٍ عَبْدًا، فَاخْتَلَطَ الْعَبْدَانِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزَا، فَإِنَّهُمَا يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِمَا. كَمَا لَوْ كَانَتْ لِرَجُلِ حِنْطَةٌ، فَانْثَالَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَيُبَاعَانِ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا رِبْحٌ دَفَعَ إلَى الْعَامِلِ حِصَّتَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.

الصفحة 38