كتاب فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (اسم الجزء: 5)

معكم به برهان من الله بين ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص، فيثبت له حكم الصحة، وبين ما يدخل من تحتها، فيثبت له حكم البطلان، وإن عجزتم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله.
كلمة عظيمة من يحتج لقوله لا بقوله، فإذا قال الإنسان هذا قول الإمام أحمد قلنا الإمام أحمد يحتج لقوله ولا يحتج بقوله ليس أحد من البشر يحتج بقوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أمرنا باتباعه كالخلفاء الراشدين مثلًا.
وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وجد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل، وذلك عين المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عنه تحت قوله: {والمطلقات متاع}، وتحت قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء}، وأمثال ذلك، وهل سلم لكم منازعوكم قط ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم؟
قالوا: وأما استدلالكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم من وجوه:
أحدها: صريح قوله: فردها عليَّ ولم يرها شيئا، وقد تقدم بيان صحته.
قالوا: فهذا الصريح الصحيح ليس بأيديكم ما يقاومه في الموضعين، بل جميع تلك الألفاظ إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة كما ستقفون عليه.
الثاني: أنه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يعتد بذلك وقد تقدم.
الثالث: أنه لو كان صريحًا في الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرد الرأي، وقوله للسائل: أرأيت؟
الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطرابًا شديدًا، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحًا في عدم الوقوع، ووجدنا أحد ألفاظ حديثه صريحًا في ذلك، فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.

الصفحة 24