كتاب فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (اسم الجزء: 5)

وأما حديث أنس: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"، فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد بالله أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحد من الثقات من أصحاب حماد بن زيل، وإنما هو من حديث إسماعيل بن أمية الذارع الكذاب الذي يذرع ويفصل، ثم الراوي له عند عبد الباقي بن قانع، وقد ضعَّفه البرقاني وغيره، وكان قد اختلط في آخر عمره، وقال الدارقطني: يخطئ كثيرًا، ومثل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثه حجة.
وأما إفتاء عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنه بالوقوع، فلو صح ذلك- ولا يصح أبدًا-، فإن أثر عثمان، فيه كذاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سمَّاه عن زيد، فيالله العجب، أين هاتان الروايتان من رواية عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن عبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يعتد بها، فلو كان هذا الأثر من قبلكم لصلتم به وجلتم.
وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتب أثره عليه، كالظهار فيقال أولًا: هذا قياس يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه، ثم يقال ثانيًا: هذا معارض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثًا: ليسر للظهار جهتان: جهة حل وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والرِّدة، فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته، فلا يتصور أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع، فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها فترتبت عليها أحكامها، وإلحاق الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام، وصحيح وباطل أولى.
قالوا: إن الطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، الظهار محرم منكر من القول وزور تترتب عليه أحكامه، قالوا: فالطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، ابن القيم يقول: المحرم الذي تترتب عليه آثاره ليس له إلا جهة واحدة جهة التحريم، وأما ما له جهتان: جهة حل وجهة حرمة وجهة صحة وجهة فساد؛ فهذا إن وقع على الوجه الذي يكون حلالًا صحيحًا نفذ، وإن وقع على الذي يكون حرامًا باطلًا بطل؛ لأننا لو لم نقل في ترتب أثر الظهار عليه لم يبق له حكم هو جهة واحدة فقط، كالقذف إذا قذف رجلٌ رجلًا بالزنا فحله حل القذف، ولا نقول: هذا حرام ولا يترتب عليه أثره، نقول: ليس فيه جهة حلال حتى نحمل الحلال على الصحة والحرام على البطلان وهذا واضح، ولكن عند المناظرات ولا سيما إذا كان المناظر قويًّا وصرخ في وجه صاحبه فإن الثاني يسقط في يده ويخاف ويعجز أن يأتي بالفروق الدقيقة كهذه.

الصفحة 26