كتاب فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (اسم الجزء: 5)

يعني إذا قلنا: إن الطلاق لا يقع فقد احتطنا من جهتين: من جهة أننا أبقيناها لزوجها الأول والأصل بقاء النكاح، ومن جهة أنِّا حرمناها على غيره، لكن لو أوقعنا احتطنا من جهة واحدة أننا حرمناها على زوجها لكن أحللناها لغيره وهذا انتهاك فرج، ونظير هذا طلاق السكران كان الإمام أحمد يرى أن السكران يقع طلاقه فقال: كنت أقول بوقوع طلاق السكران حتى تبينته يعني تأملته وتبين لي الأمر فرأيت أني إذا قلت بوقوع الطلاق أتيت خصلتين حرمتها على زوجها والثاني أحللتها لغيره وإني إذا قلت بعدم الوقوع أتيت خصلة واحدة وهي إحلالها لزوجها الذي هو الأصل خير من إحلالها لغير الذي هو خلاف الأصل وعلى هذا يكون الإمام أحمد رجع عن القول بوقوع طلاق السكران، ولعلكم تذكرون أننا قلنا: إن المذهب ينسب إلى الإنسان شخصيًّا وينسب إليه اصطلاحًا فما هو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي في هذه المسألة؟ وقوع طلاق السكران هذا هو مذهب الحنابلة لكن مذهبه الشخصي عدم الوقوع وقد صرح بالرجوع لو قال لا يقع وسكت لكان هذه رواية ثانية لكن صرح بالرجوع.
وأما قولكم: إن النكاح يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويخرج منه بأدنى شيء، قلنا: ولكن لا يخرج منه إلا بما نصبه الله سببَّا يخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصبه المؤمن عنده، ويجعله هو سببا للخروج منه، فكلا، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك، الوعورة، المسلك، التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان، وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان، وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها ليعلم الغُّر الذي بضاعته من العلم مزجاة، أن هناك شيئًا آخر وراء ما عنده، وأنه إذا كان ممن كثر في العلم باعه، فضعف خلف الدليل، وتقاصر عن جني ثماره ذراعه، فليعذر من شمر عن ساق عزمه، وحام حول آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها، والتحاكم إليها بكل همة، وإن كان غير عاذر لمنازعة في قصوره ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور، وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور، والله المستعان وعليه التكلان، وهو الموفق للصواب، الفاتح لمن أمِّ بابه طالبًا لمرضاته من الخير كل باب.

الصفحة 28