كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 5)

مَنْفَعَةٍ جَازَ فَهَذَا أَوْلَى لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ لَهَا مُدَّةً مُتَنَاهِيَةً لَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ الْمَنَافِعِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَا مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ بِأَنْ يُصَالَحَ عَنْ السُّكْنَى عَلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ أَوْ لُبْسِ الثِّيَابِ أَمَّا إذَا اتَّحَدَ جِنْسُهُمَا كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ السُّكْنَى عَلَى السُّكْنَى أَوْ عَنْ الزِّرَاعَةِ أَوْ عَلَى الزِّرَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ فَكَذَا الصُّلْحُ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِالْمَنْفَعَةِ فَكَذَا الصُّلْحُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْجِنَايَةِ) يَعْنِي الصُّلْحَ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْجِنَايَةِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً سَوَاءً كَانَ عَنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ، أَمَّا الْعَمْدُ فِي النَّفْسِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَمَعْنَاهَا مَنْ بُذِلَ لَهُ بَدَلَ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ مَالٌ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالصُّلْحِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الْفِعْلِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَمِلْكِ النِّكَاحِ وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الصُّلْحِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَمْوَالِ الْمَعْلُومَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمَعْلُومَةِ وَمَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْقَوَدِ مِثْلُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَكِنْ فِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يُشْرَعْ بِلَا مَالٍ وَالْعَفْوُ مَشْرُوعٌ بِدُونِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فِيهِمَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَةَ الدُّخُولِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ قِيمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ وَفِي الْعَفْوِ عَنْ الْقَوَدِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ وَلَمْ يُوجَدْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ يَكُونُ بِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَالْقِصَاصُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إذْ لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَجَازَ أَخْذَ عِوَضِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا فَجَازَ أَخْذُهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي
ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَصِيُّ الْوَارِثِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ بَعْدَمَا قَبَضَ الْمُوصَى لَهُ مَا صَالَحُوهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ إسْقَاطٍ وَقَدْ تَمَّ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَنْفَعَتِهِ مَا دَامَ حَيًّا وَقَدْ أُسْقِطَ كُلُّ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ فَسَلِمَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ عَبْدًا مُدَّةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُسَلَّمْ جَمِيعُ مَا قُوبِلَ بِالْمُبْدَلِ فَلَا يُسَلَّمُ الْبَدَلَ أَيْضًا فِي مُقَابَلَتِهِ لَهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْجِنَايَةِ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَالصُّلْحُ مِنْ كُلِّ جِنَايَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ عَلَى مَا قَلَّ مِنْ الْمَالِ أَوْ كَثُرَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ بِغَيْرِ مَالٍ فَيَحْتَمِلُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا وَهُوَ حَقٌّ يَحْتَمِلُ التَّقْوِيمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَذَا قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» أَرَادَ بِهِ بِرِضَا الْقَاتِلِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى هَذَا كَذَا فِي شَرْحِ الْكَافِي؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ حَقٌّ يَجُوزُ أَنْ يَئُولُ إلَى مَالٍ وَهُوَ إذَا دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ فَجَازَ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَى مَالٍ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ) وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَفَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الْفِعْلِ) بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ إذْ لَيْسَ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ. اهـ. (قَوْلُهُ وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا إلَخْ) أَيْ الصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ وَلَا يُقَالُ كُلُّ مَا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَالَحَهُ عَنْ أَنْ يَعْفُوَ الْآخَرُ عَنْ قِصَاصٍ لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ آخَرَ جَازَ وَعَفْوُ الْقِصَاصِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِفَايَةِ وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ مَهْرًا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مَهْرًا وَلَمْ يَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُنَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْأَرْشُ فِي مَالِهِ حَالًا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ هُنَا كَمَهْرِ الْمِثْلِ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ ثُمَّ الْقَوَدُ يَسْقُطُ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَرْضَ مَجَّانًا فَيَجِبُ مَا ذَكَرْنَا إلَّا فِي فَصْلِ إذَا صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى خَمْرٍ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَمْلِكُ الْعَفْوَ بِلَا شَيْءٍ فَإِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَصِحُّ عِوَضًا أَصْلًا فَكَأَنَّهُ عَفَا وَفِي النِّكَاحِ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ مَهْرٍ
وَقَالَ فِي الْإِيضَاحِ وَبَدَلُ الصُّلْحِ فِي دَمِ الْعَمْدِ جَارٍ مَجْرَى الْمَهْرِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُحُمِّلَتْ فِي الْمَهْرِ تُحُمِّلَتْ هُنَا وَمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَهُ فِي الصُّلْحِ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ وَجَبَ ابْتِدَاءً لَا فِي مُقَابِلَةِ مَالٍ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فِي النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ وَيَجِبُ بَدَلُ النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ نَحْوُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى ثَوْبٍ كَمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى خَمْرٍ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِلَا مَالٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى مَالًا لَغَتْ التَّسْمِيَةُ فَصَارَ كَمَا لَمْ يُسَمِّ مَهْرًا فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَأَمَّا فِي بَابِ الصُّلْحِ فَوُجُوبُ الْمَالِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ عَفَا وَلَمْ يُسَمِّ مَالًا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ تَمَلُّكِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الدَّارُ مَثَلًا وَالْقِصَاصُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِصَاصِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ كَأَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ عَبْدِهِ فِي الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَاشْتِغَالُهُ بِالصُّلْحِ إعْرَاضٌ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ، أَوْ عَلَى ثُلُثٍ مِنْهَا، أَوْ رُبُعٍ جَازَ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَصْلِ قَالَ فِي الشَّامِلِ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ قِسْمِ الْمَبْسُوطِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَصَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ شِرَاءً مُبْتَدَأً لَا أَخْذًا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَيَجُوزُ الشِّرَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ عَلَى بَيْتٍ مِنْ

الصفحة 35