كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه ... وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟!
والرسالة طويلة، إلى أن قلت فيها:
هذا الشابّ الذي كان يتدفّق حياة ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب ... هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة. فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟
قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر

الصفحة 10